تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 308 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 308

308 : تفسير الصفحة رقم 308 من القرآن الكريم

** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً * إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَأَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمَـَنِ عَصِيّاً * يَأَبَتِ إِنّيَ أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {واذكر في الكتاب إبراهيم} واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام,)واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن. الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته, وقد كان صديقاً نبياً مع أبيه, كيف نهاه عن عبادة الأصنام, فقال: {يا أبت لم تعبد ما لايسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئ} أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً {ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك} يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك, فاعلم أني قد أطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت, و لا أطلعت عليه و لا جاءك {فاتبعني أهدك صراطاً سوي} أي طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب, والنجاة من المرهوب {ياأبت لا تعبد الشيطان} أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام, فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به, كما قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} وقال: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريد}.
وقوله {إن الشيطان كان للرحمن عصي} أي مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه, فطرده وأبعده, فلا تتبعه تصر مثله {ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن} أي على شركك وعصيانك لما آمرك به {فتكون للشيطان ولي} يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلا إبليس, وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء, بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك, كما قال تعالى: {تا لله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم, فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم}.

** قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّيَ إِنّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَأَدْعُو رَبّي عَسَىَ أَلاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبّي شَقِيّاً
يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟} يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها, فانته عن سبها وشتمها وعيبها, فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك, وهو قوله: {لأرجمنك} قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم, وقوله: {واهجرني ملي} قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق: يعني دهراً. وقال الحسن البصري: زماناً طويلاً. وقال السدي {واهجرني ملي} قال: أبداً. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس {واهجرني ملي} قال: سوياً سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة, وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم, واختاره ابن جرير, فعندما قال إبراهيم لأبيه: {سلام عليك} كما قال تعالى في صفة المؤمنين: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلام} وقال تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} ومعنى قول إبراهيم لأبيه {سلام عليك} يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة {سأستغفر لك ربي} ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك {إنه كان بي حفي} قال ابن عباس وغيره: لطيفاً, أي في أن هداني لعبادته والإخلاص له.
وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: {إنه كان بي حفي} قال عوده الإجابة. وقال السدي: الحفي الذي يهتم بأمره, وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام, وبنى المسجد الحرام, وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام, وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ـ إلى قوله ـ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شي} الاَية, يعني إلا في هذا القول, فلا تتأسوا به, ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه, فقال تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ـ إلى قوله ـ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم}. وقوله: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي}. أي وأعبد ربي وحده لاشريك له {عسى أن لاأكون بدعاء ربي شقي} وعسى هذه موجبة لا محالة, فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

** فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً
يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله, أبدله الله من هو خير منهم, ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق, كما قال في الاَ ية الأخرى: {ويعقوب نافلة} وقال{ومن وراء إسحاق يعقوب} ولاخلاف أن إسحاق والد يعقوب, وهو نص القرآن في سورة البقرة: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} ولهذا إنما ذكر ههنا إسحاق ويعقوب, أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته, ولهذا قال: {وكلاً جعلنا نبي} فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبىء في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف, فإنه نبي أيضاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس, فقال: «يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله», وفي اللفظ الاَخر «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم». وقوله {ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق علي} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الثناء الحسن, وكذا قال السدي ومالك بن أنس, وقال ابن جرير: إنما قال عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطّورِ الأيْمَنِ وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه, عطف بذكر الكليم, فقال: {واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلص} قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة. قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع, عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله ؟ قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس, وقرأ الاَخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى, كما قال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس} {وكان رسولاً نبي} جمع الله له بين الوصفين, فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة, وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله: {وناديناه من جانب الطور} أي الجبل {الأيمن} من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح, فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه عند شاطىء الوادي, فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى هو القطان, حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وقربناه نجي} قال: أدني حتى سمع صريف القلم, وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم: يعنون صريف القلم بكتابة التوارة. وقال السدي: {وقربناه نجي} قال: أدخل في السماء فكلم, وعن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة {وقربناه نجي} قال: نجا بصدقه. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الجبار بن عاصم, حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل, عن شهر بن حوشب, عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب الله موسى نجيا بطور سيناء قال: يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة تعين على الخير, فلم أخزن عنك من الخير شيئاً, ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئاً, وقوله: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبي} أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه, فجعلناه نبياً, كما قال في الاَية الأخرى {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون} وقال: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} وقال: {فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً, قال الله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبي} قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس قوله: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبي} قال: كان هارون أكبر من موسى, ولكن أراد وهب نبوته له, وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقاً عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدّورقي به.